نأتي الآن إلى الجاسوسية بالتربية، الجاسوسية بالتربية أيضا نوعان، نوع نذكر منه أمثلة مثل خالدة أديب الكاتبة التركية، ربما لا تسمعون بها، كانت في زمن مصطفى كمال كاتبة تركية مشهورة، هذا كله تقسيم من حيث الشكل، في الأول الفردية ليست هامة كثيرا، شخص ينذر نفسه، ثم الوراثية تطرقنا لها، الآن بالتربية، الجاسوسية بالتربية، هذه كلها من حيث الشكل، الجاسوسية بالتربية نضرب منها أمثلة.
قصة عائلة عبد القادر الجزائري:
في بدمشق عائلة الحسيني، عائلة عبد القادر الحسني رحمه الله، الثائر الجزائري الذي قاوم الاحتلال الفرنسي، وشكل دولة إسلامية في الجزائر طيلة خمسة عشر عاما، ثم هُزم، فجاء لدمشق بحيلة طبعا جاء لدمشق، أقنع نابليون الثالث ملك فرنسا، قال له أريد عمل ثورة ضد العثمانيين، فأمده نابليون الثالث بأموال وجيوش من الجزائريين، الجزائريين الموجودين الآن بالأردن وسوريا وتوزعوا كانوا قد جاؤوا مع عبد القادر الجزائري على أساس جاؤوا كجيوش لمحاربة العثمانيين وتشكيل دولة، وقد قدم له المال نابليون الثالث ملك فرنسا، طبعا ما كان يريد ذلك عبد القادر الجزائري، كان يريد التخلص منه، فخدع نابليون الثالث وجاء وسكن في دمشق، له حفيد اسمه سعيد الجزائري، اجتمعت معه مرتين، كنت صغيرا، وكان يمر بقرية طفس[1]، فأثناء السهرة يأتي ضيف اسمه عوض المرعي حريديم، كان مختار القرية، وعوض المرعي حريديم له قصة أيضا ستمر معنا، فيأتي يضيف عنده، فأثناء السهرة كنت أذهب عندهم وأنا صغير، شاهدته مرتين، هذا كان له أرض بقرية بالجولان اسمها الشجرة، وهي غير شجرة الأردن، هناك شجرة بالأردن، والشجرة السورية، بالجولان، له بالشجرة السورية، كان يأتي لإدارة أرضه بالشجرة، كان له ثلاثة أولاد، عبد الرزاق، ويحيى، ومريم.
قصة عبد القادر الجزائري ومجزرة النصارى:
يقال أن جده عبد القادر الجزائري حمى النصارى من مذبحة سنة (1840) أو (1860)، طبعا القصة غير صحيحة، لم تحصل مجزرة، ولكن هناك قصة أخرى، كان هناك رهبان إيطاليين عددهم (13) أو (12) ومعهم الخادم، وكان شغلهم الشاغل بدمشق الاستهزاء بالإسلام، ورسوم ينشرونها بحارات وشوارع دمشق استهزاءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، مثلا من التي سمعتها، صوروا الرسول صلى الله عليه وسلم داخل يسرق بيض من خم الدجاج وتقوم امرأة بضربه.
ومن الصور التي بقيت مؤخرا، هذه نذكرها، قاموا برسم شخص ثيابه مهترئة ولعابه يسيل من فمه أو لا يسيل! ويمسك بقطعة خبز يأكلها، ويمسك ذكره بيده، وكتبوا اسم محمد تحته، وأمامه شخص آخر مرتب ونظيف ويمد يديه للأعلى يدعو، بمعنى أنهم يقولون هذا المسيح وهذا محمد، فصار بعض المسلمين يعلقون عليها، طبعا التعليق أيضا كافر والرسم، ولكن هي مسائل وجدت، ماذا صار بعض المسلمين يعلقون! قال هذا محمد يأكل الخبز ويقول له المسيح شحذني بعض الخبز، فيقول له محمد “خذ” (كلمة بمعنى بذيء بالعامية)!، طبعا كلها غير جائزة، ولكن هذا ما حدث، فقام المسلمون قتلوا هؤلاء الثلاثة عشر فقط، ولم يمسوا أي مسيحي بأذى، وهؤلاء الثلاثة عشر، لو كان يوجد مسلمين مثلهم في أوروبا الآن يعملون عشر ما فعله أولئك لقاموا بقتلهم بالشوارع.
أي أن التي يسمونها مذبحة النصارى، كلمة غير صحيحة أبدا، وزعموا أنه قام النصارى وجاؤوا إلى بيت عبد القادر الجزائري بدمشق، في حارة تسمى “السبع طوالع”، في بيت عربي واسع وضخم وما شابه، جاؤوا إليه، المسافة إلى بيته حوالي كيلو متر ونصف، وزعموا أنهم لجأوا إلى بيت عبد القادر الجزائري لأجل أن يحميهم من المسلمين، مع أنه لا أحد اعترض طريقهم أو آذاهم، وهم يمشون في طول الطريق الناس تشاهدهم ويسألون ما القصة؟ ولا يوجد أي شيء، وإنما كلها دعاية في دعاية…
النتيجة… الحديث هذا هو ذو شجون يخرج من هنا وهناك…
قصة تحويل أولاد الأمير سعيد الجزائري إلى جواسيس بالتربية:
فعلى أساس أن عبد القادر الجزائري حمى النصارى، فصار النصارى يفتحون لآل الجزائري مدارسهم مجانا يدرسون فيها، وكذلك الفرنسيون عندما دخلوا، جاء شخص فرنسي لعند الأمير سعيد الجزائري، حفيد عبد القادر، الذي له ثلاثة أولاد، عبد الرزاق، ويحيى، ومريم، جاء فقال له يا أمير سعيد أنتم جدكم له فضل على النصارى، حمى النصارى، ونحن طبعا نريد أن نكافئكم، لذلك هؤلاء الأولاد، نريد أخذهم ما عليك من مصروفاتهم، نأخذهم للمدارس يتعلمون ويأكلون ويشربون، حتى ينتهوا من الدراسة الجامعية ثم يعودون إليك.
فقال لهم خذوهم، أخذوا عبد الرزاق ويحيى، ولا أدري إذا أخذوا مريم أم لا؟ لا أعرف، وإن كنت أرجح أنهم لم يأخذوا مريم، مريم لم تؤخذ، هذا ما أرجحه، ولكن لا علم لي بالضبط، أما عبد الرزاق ويحي فقد ذهبوا، ولأي مرحلة أتموا الدراسة لا أعرف أيضا، ولكن على الأقل للتوجيهي (الثانوية العامة) أتموا، ثم رجعوا عند أبيهم، وأصبحوا يساعدون أبيهم، بدلا من أن يذهب إلى الشجرة لإدارة أرضه والإشراف عليها، كان أولاده يذهبون.
فعندما يكون أبوهم حاضرا معهم، عبد الرزاق اسمه عبد الرزاق، ويحيى اسمه يحيى، ومريم اسمها مريم، عندما يغيب أبوهم يذهب إلى دمشق، يصبح اسم عبد الرزاق “جاك”، ويحيى “جوني”، ومريم “ماري”، جاك، جوني، ماري.
سنة (1957) ذهب جاك وجوني، من هم جاك وجوني؟ عبد الرزاق ويحيى، ذهبا إلى الجزائر، وهناك أعلنا يهوديتهما، هذا مثل نجح نصف نجاح، ليس نجاح كامل، هؤلاء كيف صاروا يهوداً؟ في المدرسة التي مفترض أنها تبشيرية، مدرسة تبشيرية فرنسية، أو علمانية، مدرسة إما علمانية أو تبشرية مسيحية، فإذا فيها اليهود هناك متسربون ودرّبوهم وعلموا هذين الابنين وخرّجوهما يهودا، عندما كانا عند أبيهما لم يتجرّءا أن يقولا أنهم يهود، سنة (1957) كانت الثورة الجزائرية مشتعلة، ذهبا إلى الجزائر وأعلنا هناك يهوديتهما.
هذا مثل نجح نصف نجاح، وهو يُفشل المخطط اليهودي هذا المثل. لماذا؟ لأنه فضيحة للمخطط، أن أولاد الأمير سعيد الجزائري درسوا في مدرسة فرنسية، يقومون بإعلان يهوديتهما! إذن؟!. أرسلا إلى فيتنام، كانت الحرب الفيتنامية قائمة، واختفى كل ذكر لهما، ظننت أنا أنهما قتلا هناك، يعني تخلصوا منهما، لكن سنة (1987 أو 1986) سمعنا أنهم رجعوا إلى الجزائر في تلك السنة أي في الثمانينات رجعوا إلى الجزائر، كانوا قد أرسلوا إلى هناك لإبعادهم، كي لا تنفضح القصة وتصبح فضيحة أن أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري وأولاد سعيد الجزائري قد تهوّدوا، وبعد أن مضت المدة رجعوا، الآن ما هي أخبارهم؟ لا أعرف. هذا مثلا نجح نصف نجاح.
قصة عوض المرعي حريديم مع محاولة التربية اليهودية:
مثل لم ينجح، ذكرنا اسم عوض المرعي إذا تتذكرون، عوض المرعي حريديم من طفس، كان أخوه اسمه طلال، رحم الله الجميع، كان أحد قادة الملك فيصل، الشريف فيصل، يوم جاء احتل هذه البلاد وطرد الأتراك من هذه البلاد، كان هو أحد قادة القبائل، لأنه كان قادة الملك فيصل كلهم شيوخ قبائل، يعني لم يكن لديه جماعة من خريجي الكليات العسكرية، قُتل طلال عند قرية “الشيخ مسكين”، صارت حوادث فقتل أثناء معركة مع الأتراك، يوجد لهم صديق كان بدمشق اسمه موسى لالو يهودي، في ذلك الوقت كانت العلاقة مع اليهود ليست مثل الآن، كان الشعور مع اليهودي مثل الشعور مع النصراني، أو حتى يرى بعضهم أن اليهودي أقرب من النصراني.
فكان لهم صديق اسمه موسى لالو، لما قتل طلال حريديم، له ابن اسمه منصور أظنه حياً حتى الآن، فهو من حوالي عشر سنوات جاء إلى عمّان ولكن لم أره، ولكن عرفت أنه جاء لعمان وكان حي، أما الآن لا أعرف، جاء موسى لالو اليهودي صديقهم لعند عوض المرعي حريديم أخو طلال عم الولد منصور، كان منصور عمره عشر سنوات، جاء لعند عوض، فقال له يا شيخ عوض، هذا منصور ليس فقط ابن إخيك طلال، طلال ليس فقط أخوك، طلال أخي أيضا، وأنا من أجل عيون طلال، أريد آخذ منصور عندي، أعلمه حتى يتخرج، أبعثه إلى إسطنبول، أعلمه حتى يتخرج.. الخ، فقال عوض المرعي خذه، فأخذه.
عوض المرعي كان كريماً رحمه، فكان يرسل له الكثير. وضعه عنده في حارة اليهود، وفي مدرسة اليهود صار يدرس، في آخر السنة وجده يعرف القراءة والكتابة والإمضاء باسمه، فببساطة الإنسان العادي، ففي آخر السنة جاء وقال “رد ابني بدو يطلع يهودي؟!، تعال ولك، الله يجعل عمره ما حدا تعلم، ما بدناش نطلع يهود، تعال ما بدناش هالتعليم”، فسحبه. هذا مثل لم ينجح.
مثل آخر أيضا لم ينجح، أيضا مع ابن أخو عوض حريديم الثاني، عوض حريديم بذاته له أخ اسمه عبد الكريم، ويُنادى “اكريّم”، له ولد اسمه جبر، كان هنا بالأردن يوجد ضابط إنكليزي اسمه “سمرست”، وهو ليس كاتب مشهور، هو ضابط عقيد أو عميد بالجيش الإنكليزي كنيته “سمرست”، ذهب بطائرة خاصة صغيرة إلى طفس، وهناك اكريّم حريديم عبد الكريم حريديم أخو طلال، له ابن اسمه جبر عمره (7 أو 8) سنوات، قال له يا شيخ اكريّم، أنا سآخذ جبر أبعثه إلى إنكلترا يكمل تعليمه وأعيده لك، فأجابه بالبراءة، “سيذهب ليعود إلي نصراني كافر، الله يجلعه عمرو ما يتعلم مابدناش هالتعليم ما بدناش ياه يصير كافر”. مثلان لم ينجحا.
الأمثلة الناجحة في الجاسوسية بالتربية:
المثل الذي لعبد الرزاق ويحيى نجح نصف نجاح، الأمثلة الناجحة نجاحاً كاملا، أظنها كثيرة، منها حزب التحرير بكامله، منها كل بعثي، منها كل شيوعي، هؤلاء كلهم جواسيس بالتربية لإسرائيل ومن أجل إسرائيل الكبرى، وكلهم يظنون أنفسهم مجاهدين في سبيل قضيتهم، البعثي يظن نفسه من أجل العروبة، والشيوعي يظن نفسه قضية عالمية، والتحريري يظن نفسه في سبيل الإسلام، ومستعد للسجن، ومستعد يُقتل جهاداً في سبيل الله، وهو يعمل لإسرائيل الكبرى، دون أن يدري، دون أن يعرف، وهذا هو القمّة فيما وصل إليه فقه الجاسوسية عند اليهود. هذا الجاسوسية من حيث الشكل.
[1] قرية صغيرة في سهل حوران في محافظة درعا في سوريا، وهي مسقط رأس الأستاذ أبو الأمين محمود عبد الرؤوف القاسم رحمه الله.