رحيل قامة ثقافية بعيداً عن “زوامير الإعلام”

حين قابلته أول مرة قبل عشرين عاماً كنت ما أزال في المرحلة الثانوية في حين كان الشيب هو الذي يواجهك في لحيته البيضاء إذ قد تجاوز الستين من عمره، وصحبته طوال هذه الأعوام العشرين متعلماً ومستفيداً منه ومن ثم محاوراً ومناقشاً فيما بعد، وطوال هذه الرحلة كنت أدخل معه عوالم جديدة من الفكر والتاريخ والعلم كيف لا وأنا حصلت على كنز من العلم والمعرفة فقلما يتاح في حاضرنا للشباب مخالطة الشيوخ من العلماء والمثقفين أصحاب التجربة الواسعة والخبرات المتنوعة والمعارف الموسوعية.

الأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم، والمشهور بلقب أبو الأمين، أصله من نابلس وأخواله من الأكراد ولد في درعا وعاش في دمشق واصل دراسته في الفيزياء بفرنسا ما أتاح له التجول في أوروبا بشقيها وزار روسيا وبعد عودته من فرنسا ذهب في إعارة للعمل في الكونغو مدرساً قبل أن يعود إلى الشام ومن ثم يهاجر كحال الكثيرين إلى الأردن عبر لبنان.
كان الأستاذ أبو الأمين نموذجا حيا يعيش بيننا لكثير من الشخصيات التي نسمع عنها في التاريخ فهو قد نشأ يتيماً ومن ثم فقد فارق منزله ليكمل دارسته الابتدائية فسكن وحيداً في غرفة بقرية أخرى، واستمرت هذه الوحدة معه حتى وفاته – رحمه الله- يوم الثلاثاء 20/11/2007 بعد العصر عن عمر 83 عاماً لم يتزوج فيها، وكان يعتمد فيها على نفسه في أمور حياته الخاصة فكان عصامياً من الطراز الأول في تعليم نفسه وتثقيفها وتدبير أمورها.
كنت حين تجالسه تشعر أنك تجالس رجلاً قادماً من عمق التاريخ لأنه كان من القلة التي تحيط بالتاريخ وخفاياه، كما أنك كنت تدهش من سعة معلوماته ومعارفه التي لا تقتصر على علم الشريعة بل كم ناقش من الباحثين في موضوعات علمية تخصصية وتشهد بذلك كتبه في الإعجاز العلمي في القرآن.
ومع قلة ذات يده إلا أنه كان كريماً سخياً مع إخوانه وطلابه ما أزال أذكر مرة أحضر له فيها بعض المحبين هدية من السجاد والفِراش وبعد يومين زاروه فلم يجدوها عنده فلما سألوه قال أعطيتها فلانا عنده عائلة وهو أحوج بها مني.
كانت مطالعته موسوعية وساعده على ذلك حبه للقراءة وعمله أمين مكتبة لثانوية الكواكبي بدمشق/ وإذا قلت أنه قرأ أغلب ما طبع في الخمسينيات والستينيات لا أبالغ، بل كان يقرأ بالإنجليزية والفرنسية أيضاً.
وفي مسيرته الحافلة عرف الكثير من الشخصيات العامة والمهمة على اختلاف مشاربها ومذاهبها، كما عايش الكثير من الأفكار والحركات المختلفة مما جعله صاحب نظرة ثاقبة ورؤية حكيمة.
إن مما استفدته منه – وهو كثير- مبدأ القراءة طريق العلم والعلم مفتاح الحل لمشاكلنا، وكم كان يجيب على سؤالي ما هو الحل بجواب: القراءة، فرسخ حب القراءة في قلبي وعقلي وزاد أن جعله موسوعياً، وكان يؤكد علينا كثيراً اقرأ الكتاب أكثر من مرة، كان يحدثنا عن كتب مهمة مفقودة فكنت إذا زرت بلد أبحث له عن بعضها في المكتبات ووفقت أكثر من مرة في الحصول على بعضها فكان فرحه بها يفوق فرحة الأب بمولود جديد.
علّمنا أن نأخذ من الكاتب معلومته دون رأيه، فإن الكاتب قد يكون مخطئاً في رأيه فلا نقع أسرى رأيه فأكسبنا ملكة نقدية موضوعية، علمنا أن الأسئلة هي ما نحتاجها لا الإجابات المحفوظة من دون تمحيص.
كان يحب النقاش والحوار رغم أنه في عمر أجدادنا، كان يقبل المعلومة الجديدة ويصوب رأيه إذا ظهر له الحق بدليله، كم كان يفرح إذا جاءه أحدنا بمعلومة جديدة لأنه في سنواته الأخيرة لم يعد يمكنه صحيا مواصلة القراءة والبحث رغم أنه لم يتوقف عن الكتابة أبداً ولو كتابة أسطر قليلة.
بقي حتى لحظة وفاته معلماً وناصحاً لمن حوله فقد توفي، وهو يوجه أحد جيرانه الطيبين لما هو أحسن في تصرف معين.
له عدد من المؤلفات القيمة والنادرة في مجالها منها:
1- كتابه الأهم “الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ”، وطبع في 900 صفحة من الحجم الكبير، يعد كتابه هذا عمدة للباحثين في هذا المجال لا يستغنى عنه، بل حدثني بعض الباحثين المختصين بالتصوف أنه حين قرأ كتاب “الكشف” استغرب كثيرون من النصوص الواردة فيه عن مراجع الصوفية المعتمدة لأنهم طالعوها ولا يذكرون وجودها أو مرورها عليهم، يقول بعضهم: فلما راجعت مقولاته فإذا هي صحيحة وعجبت كيف استخرجها وعميت علينا؟
2- كتابه “مصر ليست مصر” وهو بحث في الإعجاز القرآني من جهة علم التاريخ والجغرافيا وهو جانب تندر الكتابات فيه، فمعلوم أن علوم الجغرافيا والتاريخ بخاصة ما يتعلق بمنطقتنا تستند إلى مفاهيم “الكتاب المقدس” وقد ثبت اليوم بطلان هذه المفاهيم، كما في أبحاث الدكتور كمال الصليبي وغيره أو بعض المؤرخين الغربيين ككيث وايتلام أستاذ الدراسات الدينية ورئيس القسم بجامعة استيرلنج، صاحب كتاب اختلاق إسرائيل القديمة.
وقد كانت محاولة الدكتور الصليبي في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” أن يستخرج نظرية أخرى لكن بالاعتماد على نصوص التوراة، وهو ما رفضه الأستاذ أبو الأمين لأن التوراة الموجودة اليوم محرفة ومن أدلة تحريفها مخالفتها للواقع التاريخي والجغرافي.
لذلك قام الأستاذ أبو الأمين بالاعتماد على نصوص القرآن الكريم لتحديد موقع قصة موسى عليه السلام ومصر، وقد توصل إلى تحديد مكان مصر القرآن أنها تقع قرب البحر الأحمر جنوب مدينة العقبة وشمال مدينة تبوك. واشتمل الكتاب على أبحاث إضافية كتحديد مكان مدينة إرم وحقيقة طوفان نوح عليه السلام ومكان سفينته.
3- جاء كتابه “قتلوا من المسلمين مئات الملايين” ليسلط الضوء على جرائم مروعة ومجازر رهيبة تعرض لها المسلمون دون أن تلقى العناية الكافية، وهي جرائم الأنظمة الماركسية والشيوعية والاشتراكية بحق دماء المسلمين وأرضهم، فنشر إحصائيات نادرة عن أعداد المسلمين في العديد من الدول التي تعرضت إلى الاحتلال الماركسي وكم تناقصت هذه الأعداد الضخمة بعد سنوات قليلة من احتلال الماركسيين لها بواسطة المجازر الجماعية الرهيبة.
توصل أبو الأمين في كتابه هذا إلى أن الشيوعية قد قتلت من المسلمين أكثر من 200 مليون مسلم في أقل من 80 سنة! وما تزال هذه الجرائم الماركسية والشيوعية قائمة بحق المسلمين ولا تجد تغطية إعلامية مناسبة؟! إن فضائع “أبو غريب” و”غوانتنامو” لا تعادل شيئاً بحق ما يجري للمسلمين اليوم في الشيشان أو جمهوريات آسيا أو ما يتعرض له المسلمون في الصين أو تايلند وغيرها فمن المسؤول عن تغييب حق هؤلاء المسلمين ومن المستفيد من ذلك؟
وله كتب أخرى في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، رحم الله الأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم وأسكنه فسيح جناته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *