نأتي إلى قصة مشابهة، قصة أندريه جيد، الكاتب الفرنسي، أندريه جيد بالثلاثينات والأربعينات كان أشهر كتاب فرنسا، وكان شيوعي، وكان الرئيس الفخري للحزب الشيوعي، لأنه لم يكن متفرغا للأعمال الحزبية، هو رجل كاتب ومتفرغ للمطالعة والبحث والكتابة، الرئيس الفخري فقط، سمعتم الآن الكلمة التي كتبها طارق حجي عن ماذا يقول أندريه جيد عندما كان شيوعيا، أن إيمانه بالشيوعية كإيمانه بدينه، بالمسيحية أو..
قام الاتحاد السوفياتي بعمل دعوة لأندريه جيد، سنة ونصف يقضيها في الاتحاد السوفياتي على حساب الاتحاد السوفياتي، وقام بتلبيتها، وذهب إلى هناك، يقول عندما رجع، يقول أنه لما ذهب طبعا استقبلوه هناك استقبالا فخما جدا، وكان ينزل في أفخم فنادق الاتحاد السوفياتي، وخصصوا له مترجما يتقن الفرنسية والروسية، وكان مرافقا له، وكان هو لا يذهب إلا حيث يذهب به المرافق، يعني المرافق هو الذي يعيّن الأماكن التي يذهب فيها.
الكتاب الذي اشتراه الاتحاد السوفياتي من أندريه جيد:
فكان ذاك الوقت يؤلف كتابا، وقد انتهى من الكتاب في موسكو، وأراد أن يبعثه إلى دار النشر في فرنسا التي من المعتاد أن تطبع له، أراد أن يبعثه بالبريد إلى فرنسا، فقال له المرافق، لماذا تريد إرساله إلى فرنسا؟ نحن هنا نطبعه لك، قال له أندريه جيد، أن دار النشر هذه تعطيني أعلى سعر، – إن لم تخني الذاكرة – عشرين ألف فرنك في ذلك الوقت، العشرون ألف فرنك تعادل عشرة آلاف دينار أردني[1]، للإصدار الواحد، للطبعة الواحدة، وهذا أعلى سعر، أنتم ربما لا تعطوني مثله.
فيقول أندريه جيد، ضحك المرافق، ابتسم، وقال نحن نعطيك ما يعادل ستين ألف فرنك، ثلاثة أضعاف، تعجب أندريه جيد، قال تعجبت، أن ستين ألف فرنك هو رقم عالي، سوف تخسر دار النشر، قال فضحك مرافقي، وقال المسألة حسابية بسيطة جدا، أنتم عندكم العامل يقرأ بالأسبوع ساعتين ونصف وسطيا، نحن عندنا وسطيا العامل يقرأ في الأسبوع عشر ساعات، أكثر من عاملكم بأربع مرات، هذه واحدة، وعدد العمال عندنا أكثر من عدد العمال عندكم بحوالي ثلاث أو أربع مرات.
لذلك فنحن في الواقع، عندما ندفع لك ستين ألفا، فنحن نطمع بك، والأرباح التي نربحها أكثر بكثير، ونحن لا نريد أن نربح، نريد أن نبيعها للعمال بسعر رخيص، يقول أندريه جيد، فشعرت بالزهو والسرور، أنه الآن وُجد الحل للإنسانية.
زيارة أندريه جيد إلى الكولخوزات:
يقول أنه صار يأخذه إلى “الكولخوزات”، كان هناك “الكولخوز” و”السولخوز”، السولخوز هي قرية ملك للدولة كلها، والعمال وشعبها كلهم أجراء، يأكلون ويشربون، وفي الواقع الكولخوز نفس الشيء، ولكنها تفرقة في الأسماء للضحك على اللحى، ليس لنا علاقة بتفصيل المهزلة التي فيها، في الواقع كلها ملكٌ للدولة، ولكن يزعمون أن الكولخوز هو مزرعة تعاونية ملك لأصحابها، ولكن أصحابها يعملون كالدواب، ويأكلون ويشربون ولا زيادة عن ذلك، مثل السولخوز تماما.
المهم، كان يأخذه إلى الكولخوزات أو السولخوزات، منتقاة طبعا، يقول أندريه جيد، ذهبنا إلى أول كولخوز، فرأيت.. طبعا عملوا له حفلات الأكل والغداء والعشاء الفخم جدا، ويُدعى جميع أهل الكولخوز، قال رأيت شباب وأهل الكولخوز رجال ونساء مسرورين، فسألت مرافقي، أراهم مسرورين، قال سألته وأنا أشعر بنفسي بالجواب أن الشيوعية هي الحل الذي أنقذ الإنسانية، وهي التي جلبت السعادة، ولكن أريد أن أسمع منه هذا.
وقال، ولكن أجابني بجواب أعلى! قال نعم، لأنهم يسمعون بأندريه جيد، والآن يرونه أمامهم، مسرورين لأنهم يرون أندريه جيد أمامهم، يقول، فزاد شعوري بالزهو.
عندما تكلم مع العمال وعرف الحقيقة:
ثم أتقن اللغة الروسية، في أحد الكولخوزات، جلس مع أحد العمال، فسأل العامل، ما اسمك؟ كذا.. ماذا تشتغل؟ صار العامل يجيبه أجوبة كأنها مُملاةٌ عليه، قال سألت الثاني، الثالث، الرابع، نفس الأجوبة! كأنها قد تم تحفيظهم إياها، يقول هذا العامل الأول لما سألته عن اسمه وما إلى ذلك، أيضا هو وسألني أنت ما اسمك؟! قلت أنا ضيف الشرف. وكلهم قادمون على حسابي أنا أندريه جيد اسمي، قالي لي من أين أنت؟ قلت له من فرنسا. قال أين تقع فرنسا هذه؟! قلت له بأوروبا. قال ما هذه أوروبا؟! قلت له بلاد تأتي غربي.. وصرت أشرح له. قال لي ماذا تشتغل؟ قلت له كاتب. قال كيف يعني كاتب؟! قلت له أنا أكتب كذا وكذا!
فظننت أن هذا الشخص التقيت به بالخطأ، وهو جاهل، ذهبت عند الثاني، سألته الأسئلة، أجابني نفس الأجوبة التي أجابني إياها الأول، وردّ علي بالسؤال ما اسمك؟ قلت له أندريه جيد. من أين؟ من فرنسا. أين تقع فرنسا؟ ما هذه فرنسا؟ ماذا تشتغل؟ كيف يعني كاتب؟! الثالث، الرابع، الخامس… هذا في كولخوز واحد، فقلت لعل هذا الكولخوز هكذا حاله، ذهبنا إلى كولخوز ثانٍ، سألتهم، وإذا نفس الأمر، الثالث، الرابع، النتيجة، انتهت السنة والنصف، وكانوا يعطونه راتبا ضخما، مأكل ومشرب مجانا وراتب ضخم يضعه في جيبه، عدا عن الستين ألف فرنك التي هي ثمن الكتاب.
عندما صارح مرافقه وسأله عن الحقيقة:
قال، صارت صداقة بيني وبين المرافق، عندما رآى أنهم في الكولخوزات لا يعرفون فرنسا، لم سمعوا بها، أوروبا لا يعرفونها، ما هي الكتابة؟ لا يعرفون، لا قراءة ولا.. قال، قلت لمرافقي، أنه الآن صارت بيننا صداقة وكذا، إذا أريد أسألك أسئلة، هل تجيبني الجواب الصحيح؟ قال نعم، فسألته هذا السؤال، أنه هكذا رأيت، قال فسكت، فأصرّ عليه بالسؤال، قال إذا تعطيني وعد أنك لا تخبر أحدا الآن، وتجعل ستالين يسمح لي آخذك معي إلى فرنسا، تؤمّن لي لجوء سياسي لي ولزوجتي وأولادي، أخبرك، فقال له أعدك.
قال المرافق، والله، لا يقرأون كتابك، ولم يسمعوا بك، وهم فرحون بالأكل الذي في حياتهم لم يروا مثله ولم يسمعوا به، ولم يسمعوا بأندريه جيد، والكتاب الذي أعطيناك ثمنه، لم يُطبع ولم يترجم إلى اللغة الروسية، ولا يزال مرميا، ولو طُبع لن يقرأه أحد، ولا يوجد من يقرأ، فقال لما أراد الخروج، ذهب ليودع ستالين، قال له أنا دعوت مرافقي هو زوجته وأولاده لأضيفهم عندي بفرنسا مدة شهر، على حسابي دعوتهم، وأرجو أن توافق، طبعا هنا ستالين لابد أن يوافق، وعلى أساس أندريه جيد أظهر له أنه مسرور وكذا.
فجاء هو والمرافق، وصلوا إلى فرنسا، رأسا أمّن لجوءاً سياسيا للمرافق وزوجته وبدأ ينشر، ماذا عملوا ضده دعاية الشيوعيين، قالوا هذا اشترته أميركا، فرد عليهم، قال: ماذا ستشتريني أميركا؟ وأنتم دفعتم لي ستين ألفا ثمن الكتاب، وأكثر من ثلاثمئة أو أربعمئة ألف فرنك، رواتب في جيبي وضعتهم، طيلة أشهر، كانوا يعطونه بالشهر حوالي ما يُعادل عشرة آلاف فرنك، ليس ذاك، وإنما حوالي مئة وستين ألف فرنك في جيبه، وبأرقى الفنادق، وبالطائرات، وأحيانا يذهب بطائرة خاصة تذهب من أجله، وعندنا يذهب بالقطار يوجد جناح خاص له، وذكر لهم الأشياء، ماذا ستشتريني أميركا؟ أكثر من هذا الشراء؟! يكفي ما اشتريتموني!
هذه إحدى قصص أندريه جيد، وعندما خرج، تكلم هذا الكلام.
[1] كان هذا الحديث تقريبا حوالي عام 2000.